أوريد.. رسالة مفتوحة إلى رئيس الجزائر
حسن أوريد
فخامة الرئيس المنتخب السيد عبد العزير تَبون: لم تجْرِ العادة أن يخاطب مواطن من بلد أجنبي، ولو هو شقيق، رئيس دولة ليبارك له انتخابه. يشفع لي على هذا التطاول وعيي العميق بالوشائج التاريخية والثقافية بين الجزائر والمغرب، والبلدان المغاربية الأخرى، وإيماني بوحدة المصير.
أهنئكم فخامة الرئيس على الثقة التي وضعها فيكم الشعب الجزائري، وأهنئ من خلالكم شعبكم الأبي وبلدكم الطيب. تابعت ندوتكم الصحافية عقب انتخابكم، وسرّني ما نطقتم به من استعداد للإصغاء لنبض الحراك بالجزائر. لم تُقِيموا قطيعة بين تلك الهبّة التي حملها الشعب الجزائري الأبي، منذ فبراير/شباط الماضي، وتتويجكم دستوريا عن طريق انتخابات شعبية. أبنتُم عن وعي حيال من لم يصوت لكم، ومن قاطع، لأنكم منذ الآن رئيس للشعب الجزائري كافة، ومؤتَمن على تطلعاته المشروعة، وعبّرتم عن ترجمة تلك التطلعات من خلال إعادة دستور جديد، أو إثرائه حسب التعبير المستعمل من لدن فخامتكم.
أقف هنا لأن ليس لي أن أخوض في قضايا تهم الشعب الجزائري، في رسم أولوياته وطريقة معالجتها. أتمني مخلصا أن يكون النجاح حليف الشعب الجزائري من خلالكم، حتى تكون المرحلة الجديدة في مستوى ثورة نوفمبر/تشرين الثاني المجيدة، وهي الثورة التي امتزجت فيها دماء الإخوة من تونس والمغرب، مع الدماء الزكية للأشاوس من الجزائر. التطاول الوحيد هو تمنياتي بالتوفيق للشعب الجزائري، من خلال المؤسسات التي ارتضتها. ولكن هناك شيئا آخر أسفر عنه فخامة الرئيس يفسر هذا التطاول هو إيماني بالوحدة المغاربية. وأتمنى مخلصا أن تكونوا أحد بناتها. لقد عبرتم فخامة الرئيس، عن الأولويات الداخلية، وهو أمر مشروع. إلا أننا نعيش عالما متداخلا لا مكان فيه للكيانات الضعيفة، والاقتصاديات الهشة أو المنغلقة. نعيش سياقا جديدا لم تتحدد معالمه بعدُ، يحمل من الأخطار بقدر ما يحمل من المنادح أو الفرص. لن نحصد النتاج إلا بقدر ما نبذر ونغرس ونحسن تعهد الغرس. نعيش فترة تتفسخ فيها أيديولوجيات وتذوي رُؤى، وتبزغ أخرى، وتتوزع بشأنها وحدات وتوجهات، ويتحتم والحالة هذه، رؤية وعزم لرفع التحديات والتصدي لكافة الأعاصير والأنواء. أكرر ما قلته، هو أن الوحدة المغاربية هي الدرع الواقي، والحصن المانع، وطوق النجاة. لا يخامرني أدنى شك، فخامة الرئيس، بأنكم تؤمنون بالوحدة المغاربية، لاعتبارات موضوعية، لأن لكم خبرة اقتصادية، ولاعتبارات ذاتية، لأنكم تعرفون الوشائج الثقافية، بلْهَ الوجدانية ما بين الشعب المغربي والجزائري، مما يتلجلج في ذاتكم.
الإطار المنظم لما سمى بالاتحاد المغاربي انتهى، وينبغي أن نبحث عن شيء جديد نعم، هناك معطيات تتجاوز إرادة الفاعلين، بيد أني أؤمن كذلك بقدرة قيادات فذة على رسم خيارات، مهما كانت المعوقات. القيادات التي بصمت التاريخ، هي تلك التي لم تنصع لمجرى الأحداث كقشة تعبث بها التيارات، هي تلك التي رسمت توجهات، رغم العوائق والمثبطات. هي التي أبانت عن وعي استراتيجي وليس إتقانا للعبة تكتيكية.
أعي أن الإيمان بالوحدة المغربية شيء، وترجمتها على أرض الواقع شيء آخر، لأن هناك معوقات موضوعية وأخرى نفسية. لقد عرضتم فخامة الرئيس أثناء حملتكم لبعض من تلك المعوقات، فرض التأشيرة على المواطنين الجزائريين في صيف 1994 من قِبل السلطات المغربية كان خطأ، سواء على المستوى السياسي والقانوني أو الإنساني، وهو ما انتقده مغاربة حينها. ولم يفتكم فخامة الرئيس أن نوهتم بالشعب المغربي، وموقفه المتضامن مع إخوته الجزائريين. الانطباع الذي لديّ عنكم فخامة الرئيس هو أنه، فضلا عن تجربتكم وحنكتكم، تتميزون بالحكمة والتعقل. هل من الضروري أن ننكأ الجراح حينما نطرح قضية العلاقات المغربية الجزائرية، بالتذكير لما يؤلم؟ لو فُتح سجل لما أقدمت عليه السلطات هنا وهناك، مما تأذّى منه الشعبان، فلن نتقدم إصبعا. ماذا يفيد أن أذكر بأربعين ألف مغربي طُردوا من الجزائر سنة 1975 ومنهم من ولد فيها، ولم يعرف وطنا سواها، في عيد الأضحى. ألا يستحق هؤلاء بالمنطق نفسه الذي عبرتم عنه اعتذارا رسميا؟ وهناك أسوأ من قرارات تتخذ في غمرة الغضب والنرفزة، تلك التي تتخذ ببرودة، مثل رسم جدران عازلة بين البلدين، والأسوأ جدران نفسية، كسرها لحسن الحظ وعي الشعبين، كما تبدى خلال الحراك الجزائري الذي تابعه الشعب المغربي بشغف وعطف وخوف كذلك. الرهان التاريخي للوحدة والظرفية يفترضان تجاوز الشكليات.
نعم، نحتاج إلى إطار ناظم للعلاقة بين الشعبين لأن فتح الحدود ينبغي أن يندرج في رؤية وتصور. الإطار المنظم لما سمى بالاتحاد المغاربي انتهى، وينبغي أن نبحث عن شيء جديد، كما كان يقول مفكر جزائري بالتبني فرانز فانون ناصر الثورة الجزائرية. ينبغي عدم لعن المستقبل، كما يقال بالفرنسية، مما ورد على لسانكم. ينبغي الحكمة في القول والعمل، صونا للأواصر العميقة، وحفاظا على الأمل المنشود.
سرني فخامة الرئيس أن أشرتم إلى ضرورة الارتقاء بالجامعة. وهو لَعَمري عين العقل. وهل نستطيع أن نرتقي بها هنا وهناك، مع نفقات التسلح والسباق فيه؟ أليس الأجدى أن تتضافر الجهود ضد العدو المشترك، وهو الجهل والفقر. سباق التسلح هو مما يصرفنا عن المعركة الحقيقية. ولن نرتقي بالجامعة والتعليم عموما، وكل ما يضمن كرامة المواطنين في ظل وضع متوتر، وما يستلزمه من نفقات.
من نافل القول إن هناك قضايا عالقة بين المغرب والجزائر، وهي قضايا معقدة، ولن تُحل بين عشية وضحاها، ولكنها قابلة للتذليل (أو الحلحلة كما يقال اليوم) ما توافرت الرؤية والصدق مع الصبر والروية. أليس من الحكم المأثورة هذا الشطر الشهير لواحد من بني جلدتكم الإمام البوصيري الصنهاجي صاحب البردة والهمزية التي يرددها المسلمون في أصقاع العالم، والذي يعود نسبه غير بعيد عن تلمسان، «والرفق يدوم لصاحبه».
قبل عشرين سنة داعبني أمل الوحدة، وخاب ذلك الأمل. قد تكون هناك أسباب موضوعية، وأخرى ذاتية لذلك الإخفاق. يجتمع فيكم فخامة الرئيس الوعي بالمعطيات الموضوعية الداعية للتكتلات الكبرى، والعوامل الذاتية، لما تتحلون به من تبصر وحكمة ووعي، وكلاهما مدعاة لأمل متجدد. ضعوا فخامة الرئيس أعينكم على التاريخ، وليس على تقلبات السياسة، أو النظرة القصيرة، في ظرفية تتحلق تطلعات الشعب الجزائري عليكم، وترقبكم أنظار الشعوب المغاربية، ويرصدكم العالم العربي الذي يرى في الوحدة المغاربية الدرع الحامي والموئل، والعمق الاستراتيجي. بدأ صوت الشعوب يُدوّي، وليس أنبل للقائد أن يكون مصيغا إليها ومترجما لها، فهي سنده ومناره.