الجيل Z: بين التحولات العالمية والتحديات المغربية في تجديد العقد الاجتماعي
الجيل Z: بين التحولات العالمية والتحديات المغربية في تجديد العقد الاجتماعي

بقلم بهية بنخار
يشكّل “الجيل Z” ظاهرة اجتماعية وسياسية عالمية تستحق التوقف والتحليل، لأنه أول جيل في التاريخ نشأ بالكامل داخل بيئة رقمية متشابكة العوالم. في الولايات المتحدة كما في أوروبا وآسيا وإفريقيا، يتشارك هذا الجيل سمات أساسية: وُلد في حضن الإنترنت، بنى هويته على الشاشات، وتشرّب منذ الطفولة ثقافة الهواتف الذكية والتواصل الفوري. هذه النشأة الرقمية جعلته جيلاً متمرساً بالتكنولوجيا، قادراً على التكيف السريع مع التحولات، لكنه في الوقت ذاته مكشوف لضغوط نفسية واجتماعية مضاعفة، نتيجة المقارنة المستمرة والبحث عن الاعتراف عبر منصات التواصل.
الجيل Z على المستوى العالمي يتميز أيضاً بوعي كوني متزايد. بفضل انفتاحه على تدفقات المعلومات العابرة للحدود، صار أكثر ارتباطاً بالقضايا الكبرى مثل العدالة المناخية، المساواة الجندرية والعرقية، حقوق الإنسان، وحقوق الشعوب المقهورة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. هذه الروح الكونية تدفعه إلى قراءة أزماته المحلية من خلال منظور عالمي، وإلى إدراك ذاته كجزء من شبكة بشرية مترابطة. وهو جيل لا يتردد في استخدام أدوات رقمية لتحدي الروايات الرسمية وتفكيك التحيزات الإعلامية، كما ظهر في حالات متعددة من غزة إلى حركة “Black Lives Matter”، حيث فضّل متابعة روايات الأفراد المباشرة على الاعتماد الحصري على الإعلام التقليدي.
غير أن هذا الوعي العالمي لا يلغي الطابع البراغماتي للجيل Z. فهو جيل يجمع بين مثاليات التغيير ورغبة عملية في إيجاد حلول قابلة للتنفيذ. يبحث عن التعلّم التفاعلي والعملي، ويرفض أن يكون التعليم مجرد تلقين، كما يرفض أن تكون الوظيفة مجرد وسيلة للبقاء؛ إنه يسعى إلى مسارات ذات معنى تتيح له الشعور بالإنجاز والمساهمة في دفع العالم إلى الأمام. والأهم أنه أكثر انتقائية في خياراته الاستهلاكية والسياسية، فلا يدعم إلا ما يتسق مع قيمه الأخلاقية والبيئية.
لكن هذه السمات العالمية تتخذ خصوصياتها في السياق المغربي. فالمغرب يعيش اليوم تحدياً مضاعفاً: كيف يوفّق بين جيل رقمي منفتح على العالم، يتنفس العدالة والحرية بلغات وأدوات جديدة، وبين مؤسسات سياسية واجتماعية ما تزال رهينة بنيات تقليدية وقيادات حزبية متشبثة بالسلطة منذ عقود؟ هنا يبرز التوتر الأكبر: فالأحزاب السياسية لم تنجح في تجديد نخبها ولا في استيعاب طموحات الشباب. جيل الثمانينات والتسعينات نفسه – الذي يُفترض أن يكون جسراً – يشعر أنه تعرّض للإقصاء وأن دوره في القيادة صودر. فإذا كان هذا حال أبناء الأربعينيات اليوم، فكيف يمكن للألفية وما بعدها أن تجد لنفسها موقعاً داخل المشهد السياسي؟
إن ما شهدناه في السنوات الأخيرة من احتجاجات شبابية ليس سوى انعكاس مباشر لهذا الانسداد. شباب بسطاء، بلا انتماءات حزبية ولا تأطير سياسي، نزلوا إلى الشارع للتعبير عن مطالب مشروعة: الحق في الصحة، في التعليم الجيد، في العدالة الاجتماعية، في الكرامة. غير أن غياب الوسائط السياسية والاجتماعية جعل صوتهم يُقابل أحياناً بالتخوين أو بالسخرية. الأخطر من ذلك أن هذا الفراغ جعلهم يبحثون عن فضاءات بديلة للتعبير، عبر خوادم رقمية مغلقة ومنصات خارجية مثل “ديسكورد”، حيث تناقَش القضايا بعيداً عن أي إشراف أو احتضان مؤسساتي. وإذا لم يُستمع إلى هذا الجيل في فضاء وطني آمن، فسيستمر في الهجرة نحو عوالم رقمية خارج السيطرة، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على الهوية الوطنية وعلى الثقة المتبادلة التي بنتها الملكية في المغرب.
السياق المغربي يكشف أيضاً عن أزمة انتقال الأجيال. جيل الخمسينات والستينات متمسك بمواقعه منذ أكثر من أربعة عقود، رافضاً التداول والتجديد. جيل الثمانينات والتسعينات مهمش ومصادر، وجيل الألفية غير معترف به، أما جيل ما بعد 2010 فيطرق أبواباً لا وجود لها أصلاً. هذه القطيعة الجيلية تُفرغ الحياة السياسية من مضمونها، وتحوّلها إلى فضاء فارغ لا يعبّر عن التوازنات الحقيقية داخل المجتمع.
في مواجهة هذا الوضع، يصبح من الضروري التفكير في مقاربة جديدة قوامها:
على مستوى الدولة: إعادة صياغة الخطاب الحكومي الرسمي بلغة شفافة وتفاعلية، إدماج الشباب في صياغة السياسات عبر آليات مشاركة فعلية، وربط قضايا التعليم، الصحة، الشغل، والرقمنة في رؤية متكاملة.
على مستوى الأحزاب: كسر احتكار القيادات التقليدية وتفعيل التداول الجيلي، تطوير خطاب سياسي واقعي يلامس قضايا الشباب، وإنشاء مدارس للتأطير السياسي والفكري.
على مستوى المجتمع المدني: بناء فضاءات هجينة للنقاش والعمل المشترك، تشجيع التطوع والمبادرات المحلية، وتعزيز التربية الرقمية والإعلامية.
على مستوى الأسرة والمدرسة: تبني بيداغوجيا تفاعلية، دمج الثقافة الرقمية في التنشئة بدل رفضها، وتوفير دعم نفسي لمواجهة الضغوط الناتجة عن المقارنة المستمرة والضغط الرقمي.
إن الجيل Z ليس تهديداً، بل فرصة تاريخية. هو جيل يملك وعياً نقدياً وطاقات إبداعية غير مسبوقة، لكنه يحتاج إلى جسور ثقة ومساحات اعتراف. إذا أُقصي، فإن طاقته قد تتحول إلى وقود لصراعات لا تعنيه. وإذا أُدمج باحترام، فإنه قد يشكّل رافعة لمجتمع أكثر عدالة وتقدماً.
المغرب اليوم و عبر أحزابه و مؤسساته أمام لحظة حاسمة: إما أن يُعيد صياغة عقد اجتماعي ديموقراطي اشتراكي جديد يضمن المصالحة بين الأجيال، أو أن تسمر أحزابه و مؤسساته من التملص من دورها التأطيري و تدفع الى إعادة إنتاج قطيعة لن تؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان الذي نحن في غنى عنه في اطار كل التحولات الايجابية الذي عرفها المغرب منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش و تنزيله لأوراش مهمة و استراتيجية و مشاريع تنموية حقيقية استطاعت القفز بالمغرب للأمام و بسرعة فائقة في العديد من المجالات، وطنيا و دوليا . والرهان ليس سياسياً فحسب، بل هو رهان على مستقبل وطن بأكمله، وعلى قدرته في تحويل شبابه من عبء محتمل إلى قوة تغيير بنّاءة.



