حسن طارق وسيطًا للمملكة.. حينما تُراهن الدولة على مثقف هادئ في زمن الضجيج

حسن طارق وسيطًا للمملكة.. حينما تُراهن الدولة على مثقف هادئ في زمن الضجيج

حين يعبر المثقف تخوم السياسة، ويُؤْثر الحضور في صلب الدولة بدل الاكتفاء بمشاهدتها من مسافة نقد، فإن اسمه لا بد أن يُدوَّن في خانة الفاعلين الذين يمسكون بخيوط التحول، ويمنحون الممارسة السياسية بعضًا من ملامح النبل الفكري.
هكذا بدا  حسن طارق، وهو يُعيَّن وسيطًا للمملكة في مارس 2025، في لحظة تداخلت فيها الحكامة بالوساطة، والثقة الملكية بالحاجة إلى صوت ذي مصداقية وسط ضجيج البيروقراطية ومآسي صمت الإدارات.

لم يكن الرجل جديدًا على دوائر الفعل العمومي، لكنه يعود اليوم في مهمة أكثر تعقيدًا، محمّلًا برصيد نضالي صلب، وتجربة برلمانية مشاكسة، ونَفَس دبلوماسي هادئ، وعينٍ لا تزال مسكونة بأسئلة الجامعة، حيث تشكّل وعيه الأول.

حسن طارق

ابن البهاليل، أو “بهاء الليل” كما يحلو له تسميتها، لم يولد في قاعة الدرس الأكاديمي، بل في ردهات النضال الطلابي، حيث تفتّحت أسئلته الأولى.

من مدرجات الجامعة، انخرط مبكرًا في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وهناك، في دفء الجماعة النضالية، وُلد وعيه السياسي، وتشكلت رؤيته للعدالة والمجتمع والدولة.

لم يكن طالبًا عابرًا بين دروس القانون، بل ناشطًا يشكّل ذاته من نار النقاش وسؤال التغيير، وكان انخراطه في الاتحاد الاشتراكي سنة 1992 امتدادًا طبيعيًا لزمنه الطلابي، وليس خروجًا منه.

تدرّج في التنظيم الحزبي كما يتدرج الفاعل المؤمن في معمارٍ يبنيه من الداخل. من الشبيبة الاتحادية، إلى اللجنة الإدارية، ثم المكتب السياسي. لم يكن طارق صوتًا عاديًا داخل الحزب، كان لسانًا لتيار نقدي هادئ، مؤمن بتجديد اليسار لا بإعادة تدويره، متصالحًا مع الديمقراطية التمثيلية من دون أن يتنازل عن طموح التغيير الجذري. وحين دخل البرلمان سنة 2011، حمل معه نَفَسًا نقديًا قلّ نظيره، لا يهادن السلطة حين تتجاوز دورها، ولا يساير الأغلبية حين تغفل عن الالتزام السياسي والأخلاقي.

حسن طارق

ومع أن التجربة النضالية والسياسية كانت أسبق من الأكاديمية، فإن الفكر لم يكن يومًا خلفه، بل أمامه.

فالرجل الذي تربّى في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، سرعان ما واصل أسئلته في فضاء الجامعة أستاذًا للقانون العام. بدأ التدريس بكلية الحقوق بجامعة الحسن الأول في سطات، قبل أن ينتقل إلى كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط، حيث انتُخب رئيسًا لشعبة القانون العام.

وبموازاة التدريس، لم يتوقف عن الكتابة، ولم يهادن المعرفة. أصدر رواية تأملية بعنوان “شيء يستحق من الوطن”. وكتب في قضايا الانتقال والهوية والسلطة، من “اليسار وأسئلة التحول” إلى “الشباب، السياسة والانتقال الديمقراطي”.

كما أشرف على إصدار الكتاب الجماعي “المجلس الاقتصادي والاجتماعي: أي نموذج مغربي؟”، وحرّر مؤلفات مثل “المجتمع المغربي وسؤال المواطنة والديمقراطية والسياسة”.

ومن بين أبرز كتبه “حقوق الإنسان أفقًا للتفكير: من تأصيل الحرية إلى مأزق الهوية”، و”هيئات الحكامة في الدستور: السياق، البنيات، الوظائف”، الذي خصص فيه حيزًا دالًا لتأمل التحول من ديوان المظالم إلى مؤسسة الوسيط، كأنما كان يخطّ فكرًا سيعود إليه كقدر لاحق.

حسن طارق

الجامعة لم تُغلق أبوابها خلفه يومًا، ولم يغادرها هو يومًا. فحسن طارق، رغم عبوره إلى البرلمان، ورغم اختياره سفيرًا ثم وسيطًا للمملكة، ظل وفِيًّا لصفته الأكاديمية. أستاذٌ حاضرٌ بخفة ظلّه وصرامة منطقه، لا يقطع الصلة مع طلبته، ولا يتأخر عن مناقشة أطروحة أو حضور ندوة، بل يُعرف عنه حرصه على أن يكون حيث تُطرح الأسئلة ويُنتج التفكير. منذ عودته من تونس، بدا أشد التصاقًا بجمهور الجامعة، ينتقل من منصة سياسية إلى قاعة محاضرات، ويستعيد، كلما سنحت له الفرصة، تلك العلاقة الإنسانية مع عالم البحث والنقاش، حيث ما يزال يعتبر نفسه جزءًا من مؤسسة لا تتقاعد عن طرح الأسئلة. الجامعة، بالنسبة له، ليست محطة مهنية، بل هوية فكرية لا تُبدّل.

حسن طارق

ثم جاء التحوّل. سنة 2019، عُيّن سفيرًا للمغرب في تونس. كانت لحظة مفصلية: أن يتحوّل المعارض السابق إلى ممثل للدولة، من مقاعد التشريع إلى دهاليز الدبلوماسية.

لم يكن الأمر سهلًا، لكنه لم يكن غريبًا على رجل يُجيد التحوّل دون أن يفقد بوصلته. فالسفارة لم تُلغِ ملامحه الفكرية، بل زادتها نضجًا.

كان سفيرًا بهدوء، مفاوضًا بشغف، ومثقفًا في هيئة دبلوماسي. هناك، على ضفاف قرطاج، نسج شبكة علاقات امتدت من رجال الدولة إلى نخب المجتمع، وظل دائمًا وفيًّا لرسالته الأولى: أن يكون جسرا بين الضفتين، لا جدارًا.

وحين عاد إلى المغرب، لم يكن بحاجة إلى منصب جديد ليُثبت حضوره. لكن الدولة، في لحظة مفصلية، أعادت استدعاء الرجل للعب دور مختلف: الوساطة. مؤسسة “وسيط المملكة”، التي وُلدت من رحم ديوان المظالم، احتاجت إلى نَفَس جديد، يجمع بين الإلمام بالقانون وفهم آليات الدولة، بين الحس النقدي والقدرة على الإصغاء، بين الشرعية السياسية والمكانة المعنوية. فكان حسن طارق هو الاختيار المنطقي في سياق معقّد.

ما الذي يمكن أن يفعله رجل مثله في مؤسسة ثقيلة مثل هذه؟ كثير، وربما أكثر مما يتوقّعه البعض. فالرجل، بثقافته القانونية، ووعيه السياسي، وتجربته الميدانية، مؤهل لإعادة تعريف الوساطة ليس كآلية للترضية، بل كأداة للإنصاف. الوسيط في فكره ليس مجرد حامل شكايات، بل هو صلة عقلانية بين الدولة والمجتمع، ضمير قانوني يعيد توجيه الإدارات نحو خدمة المواطن، ويضخ في جسد البيروقراطية روحًا من الإنصات والتفاعل والعدالة.

حسن طارق
حسن طارق

لطالما أخبرنا، في محاضراته الجامعية، ألا نطرح أسئلة ليست لنا عنها أجوبة. لا لأنها محرّمة، بل لأن السؤال، في منطقه، مسؤولية لا تُؤخذ بخفة. كان ينظر إلى الفكر كمجال للتمرين الصارم على الشك، لا كترف بلاغي. ومع ذلك، فالرجل الذي طالما حذّر من العبث بالسؤال، لم يتوقّف يومًا عن طرحه. ليس لأنه يملك الأجوبة، بل لأنه لا يخاف من مواجهة السؤال نفسه.

بهذا المعنى، لا يأتي حسن طارق إلى الوساطة محمّلًا بيقين الخلاص، بل بتجربة رجل يعرف أن العدالة ليست وعدًا يُطلق، بل علاقة تُبنى. ولذلك، قد يكون هذا الرجل الذي عبر بين النضال والبحث، بين الحزب والمحاضرة، بين البرلمان والسفارة، هو بالضبط من يحتاجه المغرب اليوم، ليس ليقفل الملفات، بل ليفتح أبواب الإنصات، في زمن امتلأ بالصمت.

راوية الذهبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

راديو بلوس الدارالبيضاء

LIVE

|

راديو بلوس أكادير​

LIVE

راديو بلوس الدارالبيضاء​

LIVE

|

راديو بلوس أكادير​

LIVE