خلط عمل المؤسسات العمومية الحقوقية
صبري الحو
إن الحديث عن حقوق الإنسان، وفق رؤيا فكرية رصينة، وبضبط منهجي مسنود بخلفية قانونية، يسترعي، لزوما، توخي الحذر الإبيستيمولوجي في تناول مختلف الأسئلة المؤطرة للسؤال الحقيقي. ومغربيا، ادعي أن إعادة قراءة الإرث الحقوقي الذي طابع مسار التجربة السياسية المغربية أضحى ملزما من أجل استنتاجات علمية تصلح لتعبيد الطريق أمام سياسات عمومية كفيلة بترجيح كفة العدل والإنصاف، بما يعمق السلم الاجتماعي ويحفز مناخ الاستثمار.
أولاً: التدافع السياسي لاحتكار الشرعية الحقوقية ينذر بتدمير التراكم الحاصل
للأسف، يبدو أن تداعيات التدافع السياسي وسعي مختلف أطراف المعادلة إلى احتكار الشرعية الحقوقية عمق سوء تقدير التراكم الحقوقي الحاصل منذ 1999؛ لحظة انبثاق تجربة الإنصاف والمصالحة كمدخل نجح، رغم كل شيء، في إنجاز عدالة انتقالية دون أي صدام، بالأحرى بما يوطد الإيمان بالثوابت.
ثانيا: سياقات انفتاح المغرب على التراث الحقوقي العالمي
لعل استقراء تجربة الإنصاف والمصالحة قمين وكفيل باسترجاع ما انفتح عليه المغرب من سياقات دولية تسمح بالنهل من التراث الحقوقي العالمي الكوني، خاصة مع ما أصبح لحقوق الإنسان من وقع في الحكم على تجارب الأنظمة وتصنيف الدول أمميا، عبر التقارير التركيبية التي تقدم خلال “الاستعراض الدولي الشامل” بجنيف مع المجلس الأممي لحقوق الإنسان.
ولأن المرجعية الحقوقية دوليا تمتح من عدة مراجع فكرية وحقوقية؛ كما هو الحال مع مبادئ باريس، التي يعتمد عليها المغرب في بناء مؤسسات حقوقية بمواصفات محددة، غير بعيد من مبادئ نيويورك ومبادئ بلغراد ذات وثيق الصلة بمنهجيات عمل الفعل الحقوقي في كل المستويات، وفي مقدمتها تنزيل آليات الحماية وفق مقاربات استباقية تحافظ على التقدم الحاصل، وتحول دون تكريس منطق العود إلى الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ويبدو أن انخراط المغرب في الدينامية الحقوقية التي يعرفها العالم منذ مستهل الألفية الثالثة موسوم في الذاكرة الجماعية للمغاربة بمخرجات هيئة الإنصاف والمصالحة، كلحظة مفصلية في تاريخ المغرب الراهن حقوقيا وسياسيا.
ثالثاً: توطيد الوعي الحقوقي من أجل الدفع السياسي لدمقرطة الدولة والمجتمع
لا يجوز القفز على تجربة الرعيل المؤسس للتجربة دون تعميق القول في ما حققه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان من تراكم لصالح توطيد الوعي الحقوقي والدفع قدما بالعجلة السياسية في طريق دمقرطة الدولة والمجتمع؛ ومنه نحو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، حصلت طفرة مهمة من خلال توسيع الصلاحيات والتقعيد الدستوري للمجلس وفق مبادئ باريس المتعارف عليها أمميا.
ومع ما كان يعرقل التسوية النهائية للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، عبر تركيز خصم المغرب على الوضع الحقوقي من أجل إرباك قناعة المنتظم الدولي بضرورة فرض الرقابة الأممية على حقوق الإنسان بالمناطق الجنوبية.. من كل ذلك يتبين أن الفعل الحقوقي أصبح أداة من أدوات تدبير النزاعات الدولية.
رابعاً: نسف استقلال آليات الحماية الوطنية ردة حقوقية تنذر بالفواجع داخليا وخارجيا
وعبر تحليل نسقي متعددة الأوجه، لا يجب تبخيس دور حقوق الإنسان في تسويق صورة تناسب مقام الدولة بما قد يعود نفعا على مناخ الاستثمار الأجنبي. ومن تم يجدر التأكيد أن أي محاولة لنسف هذا التراكم الحاصل في اتجاه ردة حقوقية تعاكس التوجه العالمي لا يمكن إلا أن تنذر بالفواجع داخليا وخارجيا.
ومن المجلس الوطني لحقوق الإنسان نحو المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، من حيث التقاطع بين مبادئ باريس ومبادئ نيويورك وبلغراد، على المغرب ألا يسفه ما تراكم بفعل تضحيات الجميع؛ الدولة من جهة وضحايا الجمر والرصاص من جهة ثانية، بما يفند مطلب الاستقلالية الذي يشكل منطلقا مقياسيا لعرض تجارب الدولة وفق مقاربات أممية معتمدة.
خامساً: خلط آليات الحماية الوطنية يسوق صورة سلبية ويعمق منطق العبث المؤسساتي
ما حصل عبر مشروع المرسوم الجديد لنقل اختصاصات مندوبية حقوق الإنسان لصالح وزارة حقوق الإنسان يضحد بشكل مكشوف مبدأ الاستقلالية بخصوص وضع المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، بمنح كل صلاحيتها لوزارة حقوق الإنسان، التي يشرف عليها أحد صقور الحزب الإسلامي الأغلبي.
وعبر قراءة قانونية لمشروع المرسوم، يبدو مؤكدا أن هذا الخلط في آليات اشتغال المؤسسات العمومية حقوقيا سيسوق صورة سلبية ويعمق منطق العبث المؤسساتي بما يكرس نظرة ازدراء مقصودة نحو المندوبية لصالح الوزارة.
سادساً: نقل صلاحيات مندوبية حقوق الإنسان إلى الوزارة..الأجندة..الرهانات..والنتائج
تشكل قناعة البعض من خلال السعي إلى نقل صلاحيات المندوبية إلى الوزارة مدخلا لمعانقة المشروعية الحقوقية كشكل من أشكال الدخول في صلب التدافع الحقوقي المطلوب إيديولوجيا، في اتجاه تقوية النقاش في فحوى الخطة الوطنية للديمقراطية وحقوق الإنسان، على أشلاء الإنصاف والمصالحة كمشترك مغربي فريد.
ولكل ذلك نجد العلاقة بين الخطة الوطنية ونقل صلاحيات المندوبية الوزارية إلى وزارة حقوق الإنسان كافية للاعتراف بانتصار جناح محدد على حساب باقي الأطراف.
وحتما وبدون شك ستكون للأمر ارتدادات وخيمة على صورة الدولة حقوقيا، لاسيما إبان الاستعراض الدولي الشامل، الذي يحاسب الدول عبر عدة أدوات قياس متعددة، في مقدمتها مقياس استقلالية المؤسسات الحقوقية عن السلطة التنفيذية.
ترى من كان خلف نقل صلاحيات المندوبية الوزارية إلى وزارة حقوق الإنسان، في سياق أممي شديد الحساسية؟ ومن كان خلف هذا الانحراف الذي لا يناسب ما تراكم منذ 1999؟ قبل التسويق لما يسمى الخطة الوطنية للديمقراطية لحقوق الإنسان، كإحدى مخرجات مؤتمر فيينا لعام 1993؟ في تجاوز مقصود لمخرجات الإنصاف والمصالحة التي منحت الدولة مشروعية أساسية في تدبير مرحلة العهد الجديد؟.
أليس من مصلحة حكومة الحزب الأغلبي الحصول على الشرعية عبر مدخل حقوق الإنسان، لاسيما أن فقدان البصمة في ما حصل خلال زمن ما يسمى في أدبيات الحقل الحقوقي “الجمر والرصاص” يجعل الإسلام السياسي في حاجة ماسة إلى شكل من أشكال الاستثمار التكتيكي للخطة الوطنية ولصلاحيات الوزارة المكلفة بحقوق الإنسان، وتحديدا وزارة تحظى بصفة وزارة دولة؟ كيف يتم قبول هذا الانزياح المفاجئ على أنقاض استقلالية المندوبية والاتجاه نحو تقوية تدخل السلطة التنفيذية؟.
على سبيل الختم:
ختاما إن ما يحصل من أخطاء في تدبير السؤال الحقوقي لن ينعكس إلا لصالح طرف (العدالة والتنمية، والإسلام السياسي) على حساب ما راكمته الدولة بتوافق مع ضحايا الانتهاكات الجسيمة. وطبعا أختم بـ”وأسرها يوسف في نفسه”؛ في انتظار أن تتوضح الأمور أكثر، ولكل مقام مقال.