رأي: عين على “الهدر الجامعي”
بقلم: عزيز لعويسي
الحديث عن “الهدر” في إطاره المدرسي، يحيل – دون التيهان في الجدل المفاهيمي – على فعل “توقف” أو “انقطاع” المتعلم(ة) عن الدراسة خلال مرحلة من المراحل، بسبب ظرف معين أو ظروف متعددة الزوايا، يتقاطع فيها الذاتي بالموضوعي، بشكل يجعل شرائح واسعة من الأطفال والشباب المراهقين خارج نسق التربية والتكوين، ويضع السياسات العمومية خاصة التربوية منها، أمام تحدي محاصرة الظاهرة المقلقة، لما لها من تداعيات على المجتمع والدولة على حد سواء، وفي هذا الصدد، فإذا كانت عدسات الإعلام، وأعين المسؤولين عن الشأن التربوي، وأقلام الباحثين التربويين والاجتماعيين، غالبا ما تركز على “الهدر” الذي يحضر في التعليم المدرسي بأسلاكه الثلاثة (ابتدائي، إعدادي، تأهيلي)، فإن جسور هذا الهدر تمتد إلى الجامعة (الهدر الجامعي) بأشكال ومستويات أخرى.
بلغة الأرقام،فقد أكد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي –أثناء جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس النواب بتاريخ 2 دجنبر 2019- أكد أن 43 في المائة من الطلبة يغادرون الجامعة بدون شهادة ( شهادة الدراسات الجامعية العامة، الإجازة الأساسية)، و16 في المائة من الطلبة، يغادرون الجامعة بعد ستة (06) أشهر من انطلاق السنة الجامعية، دون اجتياز امتحانات الأسدس الأول، مشيرا أن نسبة الإشهاد لا تتجاوز عتبة 20 في المائة بشكل عام، وهي نسبة تتباين حسب الجامعات : 18 في المائة في كليات العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، 15 في المائة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية و10 في المائة على صعيد كليات العلوم ..مؤكدا في ذات السياق أن “التكلفة المالية” لهذا الهدر الجامعي، تقدر بحوالي 13 مليار.
وبما أن الهدر “مدرسي” كان أو “جامعي”، لا يمكن اختزاله فيمن يتوقف أو ينقطع عن الدراسة، فيمكن إثارة الانتباه في هذا الصدد، إلى نوع من “الهدر الناعم” أو “الهدر النائم”، يعكس وضعيات شرائح واسعة من الطلبة الجامعيين الفاقدين للبوصلة، منهم “متعثرون” و”فاشلون” وتائهون” و”متهورون” و”غشاشون”، بعيدون كل البعد عن إيقاعات التعلم، وعلاقتهم بالكلية أو الجامعة، لا تتجاوز حدود حيازة “بطاقة الطالب”، ولا نبالغ في القول، أن الكثير من الطلبة، قضوا زهاء ثمانية (08) مواسم جامعية في سلك الإجازة الأساسية، أو ما يزيد عن ذلك، في بعض كليات العلوم القانونية والاقتصادية ..، وحتى من أدرك الشهادة منهم، فهو يغادر الجامعة بخفي حنين كما دخلها، معاقا على مستوى الكفايات المعرفية والمنهجية والمهارية والحياتية، ويتحول إلى رقم مجهول في طابور العاطلين.
سواء تعلق الأمر بالهدر “المدرسي” أو “الجامعي”، فالأول هو امتداد طبيعي للثاني، وهما معا، يشكلان مرآة عاكسة لمنظومة تعليمية (مدرسية، جامعية)تعتريها مشاهد “الخلل” و”الارتباك”، بشكل يجعلها “منظومة” فاقدة للجاذبية والتأثير الإيجابي في المتعلم(ة)/الطالب(ة) ، على مستوى المناهج والبرامج وطرائق التدريس وبنيات الاستقبال.. منظومة لاتزال وفية ومخلصة لمفردات “الكم” و”الشحن” و”التخزين”، في زمن “تكنولوجيا الإعلام والاتصال” التي تفرض أنظمة بيداغوجية حديثة، تطلق العنان للكفايات المعرفية والتواصلية والمهارية والحياتية، وتفتح أمام الطلبة، مساحات رحبة للتعبير عن المواهب والقدرات والطاقات، بشكل يحميهم من حر “الهدر” المؤلم.
ونختم بالقول، أن ما أشار إليه الوزير الوصي على القطاع، من أرقام صادمة بخصوص “الهدر الجامعي”، إذا ما أضفنا إلى ذلك نسب “الهدر المدرسي”، سنكون أمام “وضع محرج” من عناوينه العريضة، وجود شرائح واسعة من الأطفال والشباب والمراهقين، خارج منظومة التربية والتكوين، وهذا الواقع المؤسف، يضرب عرض الحائط السياسات العمومية الرامية إلى الارتقاء بالتعليم وتعميم التمدرس، ويحد من فرص تجويد التنمية والارتقاء بمستوى عيش السكان خاصة الشباب منهم.
وقبل هذا وذاك، يسائل”مصير” الآلاف من المنقطعين عن الدراسة والمغادرين للأقسام والمدرجات، في ظل صعوبات العيش وانعدام المواكبة والدعم والتتبع، وإفلاس مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، كما يسائل “الهدر الناعم” أو “النائم” أو “المسكوت عنه” في المدارس والجامعات، وهو “هدر”، يختزل في مفردات “التعثر” و”التهور” و”العبث” و”عدم المواظبة” و”الانحراف” و”الشرود” و”التيهان” داخل فضاءات “التعلم” لا خارجها..
وفي هذا الصدد، فإذا كان الحل يمر قطعا، عبر مؤسسات تعليمية “جذابة” بكل المقاييس على مستوى المضامين والوسائل والطرائق وبنيات الاستقبال، فهو يمر أيضا عبر محاربة كل أشكال الفقر والهشاشة والإقصاء والحد من الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية الصارخة .. فمن يعاني أو يجوع أو يتألم ..سيترك القلم متى اشتد عليه وزر الألم، وسيتحول إلى رقم مجهول في “معادلة الهدر” .. معادلة عصية، قد لا تحتاج إلى علميين أو رياضيين، ولكن تحتاج لمن يدرك خطورة “الهدر” ويقدر تداعياته الآنية والمستقبلية على الوطن.. تحتاج لمن يبني الإنسان الذي يحمي القيم ويصون “بيضة” الوطن …