شيرين أبو عاقلة شهادةُ وطنٍ وذاكرةُ شعبٍ
أكاد لا أنسى أبداً منذ عرفتها أول مرةٍ، قبل أن يعرفها الفلسطينيون والعالم كله من خلال عملها في قناة الجزيرة الفضائية، خطابها الحماسي، ومفرداتها الوطنية، وكلماتها الثورية، وحسها العربي، وانتماءها الفلسطيني، وولاءها الشعبي، وعنفوانها الدائم، وجرأتها الشديدة، واندفاعها الواعي، وإحساسها بشرف مهنتها وأمانة وظيفتها، ودورها الوطني في المقاومة والنضال، ومسؤوليتها في حماية شعبها والدفاع عن حقوقه ومقدساته، وغيرتها اللافتة على شعبها وأهلها، وحنوها عليهم وقربها منهم، وإحساسها بمعاناتهم وألمهم، ومشاطرتهم همومهم وأحزانهم، وتفانيها في عملها الذي كانت تراه رسالةً وطنيةً، وتؤمن به واجباً ربانياً، وتصر على مواصلته والاستمرار فيه رغم خطورة مهنة الصحافة في فلسطين.
قد كنا على موعدٍ معها قبل شهرين في المؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج الذي عقد في تركيا، وقد تهيأت للمشاركة واستعدت للحضور، وسرها كثيراً أن تكون من بين المشاركين في أعمال هذا المؤتمر، رغم انشغالاتها الكثيرة ومهامها الكبيرة، وقد سعدت كثيراً أنها كانت من بين الضيوف المكرمين، ورأت أن اللجنة التحضيرية للمؤتمر قد احتفت بها واهتمت بمشاركتها، فتمنت أن تكون مشاركتها على قدر ثقة المنظمين للمؤتمر بها، ووعدت بالإضاءة عليه وتغطية فعالياته، فقد كانت تؤمن برأي الشعب ودوره، وتعتقد أنه أساس الصمود وسبب الاستمرار، وأنه لولا صبره واحتماله، وجلده وتضحياته، ما كان للقضية الفلسطينية أن تبقى حاضرةً بهذه القوة، وأن تفرض وجودها على مستوى العالم كله، كأهم قضية وأعقد صراعٍ في التاريخ.
كان اسمها لامعاً، ودورها لافتاً، وأداؤها في كل محطاتها الإعلامية مميزاً، وكانت تغطياتها في قناة الجزيرة للحدث الفلسطيني واجباً مقدساً ومهمةً وطنية، آمنت به وأخلصت له، وأيقنت أنها تساهم في الميدان كأي مقاومٍ يحمل بندقيته، وتشارك في تغطية الأحداث نصرةً لشعبها، وتعريةً للعدو وفضحاً لسياساته العنصرية، التي لا يميز فيها بين فلسطينيٍ وآخر، فقد كانت شيرين وإخواننا المسيحيون في فلسطين، يقاسون الويلات من أجل الوصول إلى كنيسة القيامة والصلاة فيها، شأنهم شأن إخوانهم المسلمين الذين يعانون ويكابدون الصعاب خلال محاولاتهم المستحيلة الدخول إلى مدينة القدس والصلاة في المسجد الأقصى المبارك.
كانت شيرين أبو عاقلة حاضرةً في كل الأحداث، في القدس ورام الله، وفي حيفا والخضيرة، وفي العفولة والناصرة، وفي اللد والرملة، وفي هبة النقب الأخيرة، تماماً كما كانت حاضرةً خلال الانتفاضة الثانية، وأثناء عملية “السور الواقي” واجتياح مخيم جنين، حيث كانت ببزتها الرسمية وشارتها الصحفية حاضرةً بقوةٍ، تصف بدقةٍ، وتنقل الأحداث بموضوعيةٍ وطنية، وتسلط الأضواء على الجرائم الإسرائيلية، ولا تغيب عن أي مناسبةٍ وطنيةٍ أو نضاليةٍ، رغم الأخطار التي كانت تكتنفها أثناء عملها، وتشهد شاشة الجزيرة عليها وهي تتقدم في الميدان، وتصطدم من جنود الاحتلال، ويعلو صوتها تحاججهم وتصد أوامرهم، ولا يمنعها عن أداء مهمتها قنابل الغاز المسيلة للدموع، التي أدمتها وكادت أن تخنقها أكثر من مرةٍ.
رأيتها قبيل شهر رمضان الفائت تتهيأ له وكأنها ستصوم أيامه، وتتجهز له وكأنها ستقوم لياليه، فقد شدت مئزرها وعزمت أمرها وأعدت له عدتها، وأنهت الكثير من ملفاتها، وأجلت ما تراه غير عاجلٍ منها، إذ باتت على يقينٍ تامٍ أن شهر رمضان لهذا العام سيكون مختلفاً عن غيره، ولن يشبه سواه، بل سيكون أشد وطيساً من العام الذي سبقه، وأكثر قسوةً على شعبها، ولكنها كانت تؤمن أن معركة سيف القدس الثانية قد باتت على الأبواب، وأنها ستندلع كما الأولى، ولكنها ستكون أقوى وأشد مراساً، وأكثر جدوى وأعمق أثراً، فبدت حماستها كالمقاتلين، واتقدت حميتها كالمقاومين، وَحَدَّت كلماتها كأنصال السيوف، ولبست سترتها واعتمرت قبعتها، ووضعت على صدرها وظهرها شارة الصحافة، وأدركت أن ساعة المواجهة قد دنت، وأن المعركة الكبرى قد اقتربت.
دوماً كانت شيرين تتوقع الشهادة ولا تهابها، وتقترب منها ولا تخافها، وتتقدم الصفوف الأولى ومن معها من المصورين، فلا تهتز لدوي المدافع، ولا ترتعب من صليات الرصاص، ولا تغمض كاميرتها قنابل الدخان والغاز المدمع والسام، وما كان جنود الاحتلال المدججين بالسلاح يستطيعون إخماد صوتها، أو تغيير خطابها، أو دفعها للتراجع والإنكفاء، وقد أكبرت كثيراً زميلتها جيفارا البديري وهنأتها على قوة شخصيتها ورباطة جأشها، وشجعتها على موقفها، وأيدتها في دفاعها، يوم أن كانت تتقدم صفوف الفلسطينيين ولو كإعلامية، في معركة حي الشيخ جراح المستمرة.
ما كانت شيرين أبو عاقلة تعلم أنها ستنسج اسمها بخيوطٍ نورانية، وأنها ستزين ثوبها الفلسطيني القشيب بألوانٍ ذهبيةٍ، وأن شهادتها ستكون مدويةً، وسيشهد عليها العالم كله، وسيدينها الأحرار والشرفاء، وستكون انتصاراً لقضيتها ووطنها، ورفعة لها ولشعبها، وأنها ستنتصر لفلسطين بدمها كما انتصرت لها من قبل بلسانها وقلبها، وأن ما بعدها لن يكون إلا نصراً وتحريراً، وطرداً للعدو ودحراً له.
طوبى لك شيرين مقامك العالي ومنزلتك السامية، وهنيئاً لك شهادتك، وسلام الله عليك، من القدس وأهلها، ومن المسجد الأقصى والمراطبين فيه، ومن عموم الفلسطينيين وأحرار العالم وشرفائه في كل مكان، سلام الله عليك وللقدس وكنيسة القيامة، ولبيت لحم وكنسية المهد.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي